(5)
وينبغى على المريد
التحقق من أن الظان بالمقصود من التكاليف والتعبد بالفرائض: الابتعاد عما سوى الله
والتجرد له فهو مصيب فى ظنه أن ذلك مقصود ،ومخطىء فى ظنه أنه كل المقصود، ولا مقصود
سواه.
ولكن لله
تعالى فى الفرائض التى استعبد بها الخلق أسرار غير الابتعاد عما يُغضب الله تقصر
آليات العقل عن إدراكها.
ومثل ذلك الرجل المنخدع بهذا الظن، مثل رجل بنى
له أبوه قصرا على رأس جبل ووضع فيه شجرة من حشيش طيب الرائحة ،وأكد الوصية على ولده
مرة بعد أخرى بأن لا يخلى هذا القصر من هذا الحشيش طول عمره، وقال: إياك أن تسكن
هذا القصر ساعة من ليل أو نهار إلا وهذا الحشيش فيه ؛ فزرع الولد حول القصر أنواعا
من الرياحين ، وطلب فى البر والبحر أوتادا من العود والعنبر والمسك، وجمع فى قصره
جميع ذلك من شجرات كثيرة من الرياحين الطيبة الرائحة ؛ فانغمرت رائحة الحشيش لمّا
فاحت هذه الروائح.
فقال: لا شك
أن والدى ما أوصانى بحفظ هذا الحشيش إلا لطيب رائحته والآن قد استغنينا بهذه
الرياحين عن رائحته فلا فائدة فيه الآن إلا أن يضيق على المكان فرماه من القصر.
فلما خلا القصر من الحشيش ظهر من بعض ثقب القصر
حية هائلة ، وضربته ضربة هائلة أشرف بها على الهلاك فتنبه- بعد فوات الأوان– إلى أن
الحشيش كان من خاصيته دفع هذه الحية
المُهلكة، وكان لأبيه بالوصية بالحشيش غرضان:
أحدهما انتفاع الولد برائحته وذلك قد أدركه
الولد بعقله.
والثانى دفع الحيات المهلكات برائحته، وذلك
مما قصر عن إدراكه بصيرة الولد ؛ فاغتر بما عنده من العلم وظن أنه لا سر وراء معلومه
ومعقوله كما قال تعالى( ذلك مبلغهم من العلم)، وقال( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات
فرحوا بما عندهم من العلم) والمغرور من اغتر بعقله ، فظن أن ماهو منتفٍ عن علمه
فهو منتفٍ فى نفسه.
ولقد عرّف أهل الكمال أن قلب الآدمى: كذلك القصر
وأنه مَعْشَش حيات وعقارب مهلكات وإنما رُقيتها وقيدها بطريقة خاصة: المكتوبات
والمشروعات بقوله سبحانه وتعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) و(
كتب عليكم الصيام) فكما أن الكلمات الملفوظة والمكتوبة فى الرُقية تؤثر فى استمالة
الملائكة إلى السعى فى إجابة الداعى ويقصر العقل عن إدراك كيفيته وخاصيته وإنما
يُدرك ذلك " بقوة النبوة" إذا كوشف السر بها من اللوح المحفوظ.
وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم": يسلط الله على الكافر فى قبره تنين له تسعة وتسعون
رأسا صفته كذا وكذا....." الحديث.
ويكثر مثل هذا التنين فى خُلق الآدمى ولا يقمعه
إلا الفرائض المكتوبة فهى المُنجية من المهلكات وهى أنواع كثيرة بعدد الأخلاق
المذمومة ( وما يعلم جنود ربك إلا هو) وبناءًعليه فالتكليف أمران أدرك هذا المغرور
أحدهما وغفل عن الآخر*
وكما يقولون كن لشيخك كالميت لمغسله
وكل لبيب بالإشارة يفهمُ
ترانا سكوتا والهواء يتكلمُ
ومن ثم فالصلوات المكتوبة لها أغراض متعددة منها ماهو مدرك للعقل ومنها ماهو غير مدرك ويعلمه الله لمصلحة العباد ثم الراسخون فى العلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
·
عبد الحليم
محمود( أ. د) ص254-255
فتكليف الجائع
ليتناول الطعام اللذيذ مُحال: لأنه يأكله بشهوة ويتلذذ به، فأى معنى لتكليفه!!؛
فالغرور آفة الإنسان ويجب اجتنابه" أنا خير منه، خلقتنى من نار ، وخلقته من
طين." ومن ثم كان هذا منطق الهوى ومنطق الكبرياء ؛ فسجوده لآدم ليس عبادة له
وإنما عبادة لله : لأنه خضوع لأمره سبحانه وتعالى ؛ فلابد من الاستجابة الفورية
له" ما منعك الا تسجد إذ أمرتك".
" إنما
يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا
يستكبرون."السجدة15
فبعد التهيئة
النفسية يأتى الإلهام والنفث فى الروع والوحى بطريق الرؤيا الصادقة.
ومازال الصراع قائما بين ثلاث قوى فى الوجود حتى
ذلك الوقت وهم:
· الواقعيون الذين يتجهون إلى النص ويتمسكون به ولا
يبتعدون عنه.
· المعتزلة والعقليون المحتفظون بشخصيتهم قوية خارقة لا
تلين.
· المتصوفة البصيريون وهم أصحاب الشعـــــور الرقيق والحس
المرهف ذوات النزعة الملائكية" إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى الليل
ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك"المزمل20.
ويستمر النقار
قائما بين رجال العصر الحديث والتصوف ومعهم رجال الظاهر ومن يتخذون العقل مقياسا
للآراء ، ومآخذهم علــــــــيه أن التصوف دخيل على الإسلام وليس به إلا الورع والتقوى ونوع
من الزهد ، وأن أدلة وجود الله موجودة فى القرآن الكريم وعدم إلتماسها فــــى متاهات
التصوف، وأن الصوفية" أرستقراطية الصفوة تتنافى مع روح الإسلام"
الديمقراطية" والتصوف ضعف والإسلام قــوة" وأعدوا لهم ما استطعتم من
قوة" والجهاد باب من أبواب الإسلام لا يتلاءم مع صوم النهار وقيام الليل،
والعقليون يرون أن الله عز وجل منحنا العقل البشرى ؛ لنهتدى به إليه، فإذا
مااحتقرناه كما يفعل الصـــــوفية؛ فقد استخففنا بأجل نعــــمة وهبها الله لنا.
البقية العدد القادم&
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق