تعـريف الكتاب والقرآن (ا)
بقلم: د. محمد فتحى فوزى
الكتاب والقرآن،
عند علماء الأصول لفظان مترادفان، معناهما واحد وهو:" كلام الله تعالى المُنزّل على رسوله محمد ، صلى الله عليه
وعلى آلهِ وصحبه وسلم، باللفظ العربى، للإعجاز بسورة منه ،المنقول بالتواتر المكتوب
بين دفتى المصحف المبدوء بسورة الفاتحة والمختوم بسورة الناس".
نزل القرآن الكريم
بلغة العرب، وعلى طريقة العرب في كلامهم وبأسلوب العرب في تعبيرهم. فألفاظه كلها عربية
وان انقسم علماء اللغة في ذلك شيعا وأحزابا. ولقد يكون فيه بعض ألفاظ أعجمية في أصولها
إلا أنها دخلت اللغة العربية، وخضعت لقانون تطورها، والأخذ من اللغات بالاستعراب فهضمتها
العربية، وأجرت عليها قوانينها اللغوية، فأصبحت بذلك عربية بصورتها الجديدة، ونطقها
الجديد، ولا يمكن أن يكون في القرءان الكريم
شيء من غير لغة العرب. قال تعالى: « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين
لهم». وقال جل وعلا: « إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون». وتلقى الصحابة هذا
القرءان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووعوه وعرفوه حق المعرفة، وحفظه الكثيرون منهم،
ولما انتقلوا مع الجيوش الغازية انتقل معهم حفظهم للقران، ومعرفتهم بمعانيه وقراءاته،
فنشروا ذلك كله في الأقاليم التي فتحوها، فكان نصيب مصر من هذا الفيض الإلهي شيئا كثيرا،
غير أن شخصية مصر في تفسير النص القرءاني لم تكن متميزة عن غيرها من أقاليم الإسلام
في العصور الأولى، لأنه لم يكن هناك من الحرية والجرأة لإنسان أن يقول في القرءان شيئا
يخالف الإجماع، ويعني ذلك أن معرفة القرءان استتبعت التنقل بين البلاد، والسفر بين
الأقطار حتى يدرك العلماء ما لم يعلموه، واجتمع الناس في مصر حول الصحابة الوافدين
يستمعون منهم التفسير القرءاني بلغة عربية فصيحة، وكان المصريون بخاصة أكثر الناس تحرجا
في كل ما يمس القرءان والدين. ولعل ذلك هو السر في قلة عدد المفسرين العقليين أو ندرتهم
بين المصريين، وإنه لم يكن فيهم مثل ما كان في غير مصر من بلاد الشرق في العصور المتأخرة
كالرازي والزمخشري وأضرابهما من مفسري العلوم.
مميزاته التخصصية
:-
أنه قد نـــــــــزل
علـــــــــى رسول الله صلى الله عليــــه وسلـــم باللغـــــــــــــــة العربية بقوله تبـــــارك وتعالى":وإنه لتنزيل رب العالمين،
نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين".الشعراء192-195 .
مما ينجم عنه عدم
دخول الكتب السماوية الأخرى فى مفهوم القرآن الكريم ؛لأنها نزلت بغير اللغة العربية.
فقد نزل بلفظه ومعناه معاً ومن ثم لا تكون الأحاديث الصادرة عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، سواء ً كانت نبوية أو قدسية ــ من قِبل القرآن الكريم؛ لأنها نزلت بالمعنى
فقط دون اللفظ لكونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد نُقِـل عن الرسول بالتواتر بمعنى تم نقله جمع
عن جمع يمنع العقل إتفاقهم على الكذب أو الخطأ أو النقل بهذا الطريق تفيد العلم والقطع
بصحة المنقول وثبوته ومن ثم كانت نصوص القرآن قطعية الثبوت بلا خلاف بين الفقهاء.
يترتب على المذكور
آنفا أن القراءات وصلتنا بطريق التواتر هى القراءات السبعة والثلاثة المكملة للعشرة؛
فتختص هذه القراءات بخصائص القرآن وأحكامه.
أما القراءات التى
نُقلت إلينا عن طريق الآحاد وتُسمى بالقراءات الشاذة وهى مافوق العشرة فليست بقرآن بلا خلاف بين العلماء ومن أمثلتها قراءة
عبد الله بن مسعود بن غافل الهزلى": فصيام ثلاثة أيام متتابعات".89 المائدة ؛
فهذه الزيادة"
متتابعات" لم ترو بطريق التواتر بل رويت
عن طريق الآحاد ولذلك لم تعتبر قرآنا وإنما اعتبرت تفسيراً من عبد الله بن مسعود.
أن القرآن مُعجز
للبشر أى أن الله تبارك وتعالى طلب من العرب الإتيان بمثله أو بعشر سور مثله أو بسورة
واحدة؛ فعجزوا عجزا كاملا عن الإتيان بأقصر سورة منه علما بأنهم فرسان الفصاحة والبيان
؛ فذلك العجز مع التحدى الإلاهى دليل واضح بأن القرآن من عند الله لا من عند محمد صلى
الله عليه وسلم كما كان يدعى الكفار فى هذه الحقبة من الزمان.
و هوالذي لا يهتدي
به يضِّيع عمره ومستقبله ومصيره، ويسير في ظلمات الجهل والضلالة والضياع.. ولذا قال
الله تبارك وتعالى: "وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى " طـه(124).
وليس ثمة شك أن القرآن الكريم كما روى أهميته: الترمــــــذي
والدارامي وغيرهما عن عـــلي- رضي الله عنه- قال:" سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم،
وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن
ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط
المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء،
ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذا سمعـته حتى قالوا:
إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل،
ومن دعا إليه هدي إلى صراط مسقيم.
وصدق عتبة بن ربيعة "أبو الوليد" حين
قال: "واللهِ لقد سمعت قولاً ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة،
يا معشر قريش: أطيعونى واجعلوها لى، خلّوا بين هذا الرجل ــ محمد صلى الله عليه وسلم
ـــ وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فوالله ليكونن
لفعله الذى سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العـرب، فملكه
ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به".
وأحسن الوليد بن المغيرة بقوله: "والله لقد
سمعت منه ــ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـــ كلامًاما هو من كلام الإنس، ولا من كلام
الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغـدق، وإنه يعلو
ولا يُعلى عليه، وما بقول بشر".
وقال تعالى فى محكم آياته: "إِنَّ هَذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" الإسراء (9) .
ثم يقول
الدكتور" موريس بوكاى الفرنسى" عن القرآن:" "فالقرآن
فوق المستوي العلمي للعرب، وفوق المستوى العلمي للعالم، وفوق المستوى العلمي للعلماء
في العصور اللاحقة، وفوق مستوانا العلمي المتقدم في عصر العلم والمعرفة في القرن العشرين
ولا يمكن ان يصدر هذا عن أميَّ وهذا يدل على ثبوت نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم
- وانه نبي يوحى اليه"، ويسترسل بقوله: "إنه بمثابة ندوة علمية للعلماء، ومعجم
لغة للغويين، ومعـلم نحو لمن أراد تقويم لسانه، وكتاب عروض لمحبى الشعر، وتهذيب العواطف،
ودائرة معارف للشرائع والقوانين، وكل كتاب سماوى جاء قبله لا يساوى أدنى سورة من سوره
فى حسن المعانى، وانسجام الألفاظ، ومن أجل ذلك نرى رجال الطبقة الراقية فى الأمة الإسلامية
يزدادون تمسكًا بهذا الكتاب، واقتباسًا لآياته، يزينون به كلامهم،
ويبنون عليه آراءهم، كلما ازدادوا رفعة فى القدر، ونباهة فى الفكر".
ويضيف القس لوزاون: "ليس فى الاكتشافات
العلمية الحديثة، ولا فى المسائل التى انتهى حلها، والتى تحت الحل، ما يغير الحقائق
الإسلامية الوضاءة والسهلة المأخذ؛ ولهذا فإن
التوفيق الذى نبذل كل جهدنا معاشر المسيحيين هو سابق موجود فى الديانة الإسلامية:ــ
يعنى ما هو ثابت فى القرآن من براهين ـ".
ويستطرد المؤرخ الإنجليزى الشهير " جورج ويلز"
فى مقاله الإسلام هو المدنية: "إن الديانة الحقة التى وجدتها تسير مع المدنية
أنّى سارت هى الديانة الإسلامية، وإذا أراد الإنسان أن يعرف شيئًا من هذا فليقرأ القرآن،
وما فيه من نظريات علمية، وقوانين وأنظمة؛ لربط المجتمع؛ فهو كتاب علمى، اجتماعى، تهذيبى
خُلُقى، تاريخى.. أكثر أنظمته وقوانينه تستعمل فى وقتنا الحالى، وستبقى مستعملة حتى
قيام الساعة".
فقد نظم العلاقة بين الإنسان والخالق، وبين
الإنسان والإنسان, وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان والطبيعة، والذى أنزل القرآن هو
الخالق، والخالق هو أدرى بمخلوقاته؛ ولذلك ما برح القرآن الكريم صالحًا لكل زمان ومكان.
وقد نزل القرآن الكريم على النبى الأمى الأمين،
رسول الله وخاتم النبيين ـ محمد صلى الله عليه وعلى آله ومن والاه- والأمية فى رسول
الله هى مبلغ إعجازه "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين "الجمعة(2).
وقال"لَقَدْ
مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو
عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن
كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" آل عمران ( 37).
وأيضا( الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ
فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ
وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
الأعراف(157). ولكون المعجزة تأتى من جنس
القوم التى جاءت الرسالة من أجلهم، وأن العرب اشتهروا بالبلاغة والفصاحة، وإذا جاء
القرآن على يد ممن اشتهر بالبلاغة ونظم الشعـر فلن يصدقوه، وسيتهموه بتأليفه،أما إذا
أُنزل على رجل أمى - صلى الله عليه وسلم- لا يقرأ ولا يكتب، والقرآن بوصفه كما ذكرت
آنفًا؛ فهو الإعجاز بعينه؛ لأن هذا الكلام البالغ الدقة والبيان لا يستطيع تأليفه رجل
أمى، ويستحيل على محمد - صلى الله عليه وسلـم ــ تأليفه؛ ومن ثم فهو من السماء، من
عند الله عز وجل، ومن ذلك جاء إعجاز القرآن: "إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ" غافر( 51). فهو رسالة ودستور
سماوى ....
تعريف علم التفسير في اللغة:
هو الإيضاح والبيان والكشف.
وتعريفه في الاصطلاح:
هو علم يُفهم به
كتاب الله عز وجل. وذلك ببيان معانيه، واستخراج أحكامه وحِكَمه.
نشأة علم التفسير
وكينونته:
يُراد به الإيضاح
والتبيين ومنه قوله عز وجل:"ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا".
الفرقان33
فقد اشتهر بعض
الصحابة بالتفسير وكانوا المرجع فى هذا الشأن من المسلمين، وأيضا اشتهر به من بعدهم
أعلام من التابعين الذين اعتمدوا فى تفسيرهم على ما ورد فى كتاب الله وما رووه عن الصحابة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من تفسير هؤلاء الصحابة إجتهاد منهم.
وليس ثمة شك أن
الله الذى أراد للإسلام نشراً وللمسلمين تأييدا ــ ففتح لهم بلاداً فى حياة
الرسول صلى الله
عليه وسلم، وفى عهود الخلفاء من بعده؛ فانتشر كثير من علماء الصحابة فى هذه البلاد
وكان منهم الولاة والوزراء والقُضاة والمعلمون..... إلخ.
وقد حمل هؤلاء
ما أدركوه من العـلم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ عنهم كثير من التابعين وقامت
مدارس علمية فى هذه البلاد أساتذتها الصحابة وتلاميذها التابعين واشتهر من بين هذه
المدارس فى التفسير ثلاثة، أساتذتها الصحابة وتلاميذها التابعين وهى:
مدرسة مكة المكرمة
الذى كان استاذها
إبن عباس واشتهر من تلاميذه سعيد بن جبير ويطلق عليه أبو محمد أو أبو عبد الله بن هشام
حبشى الأصل وقتله الحجاج عام (95هـ ــ713م )عن 49سنة ، ومجاهد بن جبر( مجاهد المكى ولد سنة14هـ ــ 635م)، وعكرمة( أبو عبد الله
المدنى أصله من البربر بالمغرب توفى 104هـ ــ722م) وطاووس بن كيسان(
ويدعى أبو عبد الرحمن اليمانى الجندى ولد باليمن كان يسكنهاتوفى بمكة(106هـ /724م)
حينما ذهب للحج، وعطاء بن أبى رباح ويدعى أبو محمد المكى القرشى ولد سنة27هـ/647م وتوفى
فى 114هـ./632م).
المدينة المنورة:
قامت هذه المدرسة تحت ريادة أُبُى بن كعب واشتهر
بالتفسير فيهاكثير ، منهم يزيد بن أسلم ويسمى أبو أسامة أو عبد الله بن زيد بن أسلم
توفى136هـ/753م ، وأبو العالية ويسمى رفيع بن مهران أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبى
بسنتين ت90هـ/709م، محمد بن كعب: أبو حمزة أو أبو عبد الله ت118هـ/736م ولديه من العمر
78عاما.
مدرسة العراق:
رائدها عبد الله بن مسعود الصحابى الجليل ويُعد
أستاذها الأول واشتهر بالتفسير كثير من تلاميذها منهم:
علقمة بن قيس: بن عبد الله بن مالك النخمى ولد فى حياة الرسول
وتوفى61هـ/680 عن90عاما، ومرة الهمدانى: أبو اسماعيل مرة بن شراحيل الهمدانى الكوفى
العابد ت76هـ/695م، الأسود بن يزيد: أبو عبد الرحمن الأسود بن يزيد النخمى ت بالكوفة74هـ/693م
، النخمى: أبو عمروعامر بن شراحيل الشعبى ولد30هـ/650م. ومن ثم يمكن القول أن التفسير
قد لقى اهتماما كبيرا بدليل بدء تدوينه مع تدوين أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه
وسلم ــ وقد تعددت أبوابها وكان التفسير واحد منها.
وكان تفسير القرآن قبل العصر الثانى الهجرى يروى
عن الرسول صلى الله عليه وسلم كما تروى الأحاديث والسنن وما روى عنه عليــــه السلام
من تفسير القرآن كان قليلا وغير مرتب بالشكل الذى ترى عليه كتب التفاسير اليوم.
من ذلك لمّا نزل قوله تعالى:"الذين ءامنوا
ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون " الأنعام (82)، شقت على
الصحابة فقالوا: وأينا لم يظلم نفسه يارسول الله؟ فقال: ليس ذلك؛ ألم تسمعوا إلى قول
الرجل الصالح:" إن الشرك لظلمٌ عظيم" لقمان (13).
وقد روت السيدة عائشة رضى الله عنها فى هذا أنه
لم يكن رسول الله يفسر شيئا من القرآن إلا آيات معدودة علمهن إياها جبريل عليه السلام.
ولقد رُوى عن الصحابة رضى الله عنهم تفسير كثير
من آيات القرآن وكان جُـــل اعتمادهم فى هذا التفسير على ما علموه من أسباب النزول
وما سمعوه أو روى لهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض ما روى عنهم من
ذلك كان باجتهاد منهم لأنهم أعرف الناس بمقاصد القرآن وأعلمهم بلغتهم. ونظراً لقوة فهمهم،
وسعة إدراكهم ومعرفتهم بأوضاع اللغة وأسرارها، وأحوال الناس وعاداتهم، جعـلهم يستوعـبون
ما في القرآن من معاني وأحكام، ولذلك ما احتاجوا إلى طلب تفسيرها والسؤال عنها، فضلا عن أن الصحابة
أنفسهم متفاوتون في فهم القرآن، تبعاً لتفاوتهم في المواهب والاطلاع على لغـتهم وآدابها
ولهجاتها، ومعرفة أسباب النزول وغير ذلك.
ومن المشهورين من الصحابة الذين نُقلت إلينا
آراؤهم فى تفسير القرآن من الصحابة:
علـــى بن أبى طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله
بن مسعود وأُبى بن كعب.
وفى عصر التابعين رأيناهم يحفظون ماروى عن النبى
عليه السلام وماقيل عن الصحابة من تفسير لآيات القرآن ثم يضيفون إليه الكثير مما دفعهم
إليه اجتهادهم بعـد إشتداد الحاجة إلى بيان وتفسير آيات القرآن وبالذات ما تعـلق بالأحكام
الشرعية منها وكانت تروى مختلطة بالسُنة والأحكام الفقهية.
وبحدوث التطور فى نهاية عصر التابعين بشروع العلماء
فى جمع معانى القرآن وتدوينها فى علم مستقل أسموه بعـلم التـفـسير وعكــف علماء كل
بلد على جمع كل ما ورد عن أئمتهم عن النبى صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أصحابه
من التفسير، وأصبحت مدارس للتفسير كما ذكرت سلفا، ولم يتوقف الجمع على ما عُرف من علماء
بلد معـين ولم يكن هـــــذا المجموع مرتــب طبقا للآيات والسور ولا حسب أبواب الفقه المختلفة
كما حدث فى السُنة فى مرحلتها الأولى والأخيرة، وممن نهض بهذا العمل (سفيان بن عيينة
ووكيع بن الجراح وإسحاق بن راهويه).
وبقدوم العصر العباسى شرع العلماء بجمع هذه التفاسير
وترتيبها تبعاً للسور والآيات، ثم تدوينها على هذا النحو، ومن اقدم التفاسير التى وصلتنا
على هذا النحو : تفسير بن جريج، وتفسير السدى ومحمد بن إسحاق.
ولم يأتنا شىء
من هذه المجموعات إلا نُقًول منها على يد جرير الطبرى صاحب التفسير المعروف.
ولقد اتبع العلماء
فى تفسيرهم منهجين أحدهـــــما على ماروى عن الرســـــــول عليـــــه الســــــــــلام
و مــــــــــا أُُثــــــر عن الصحابة وهذا
قريب من صنيع فقهاء مدرسة الحديث.
والآخر إما بالرأى
و الاجتهاد، فهم يتوسعون فى ذلك معتمدين على معرفتهم بأسباب النزول وعلمهم بمقاصد القرآن
وهيمنتهم على أساليب لغتهم ومعانيها.
ولا تتوقف كتب
التفسير على طريقة دون الأخرى بل جمعـت بين الطريقتين وإن تميزت عن بعضها بالطريقة
الغالبة، وقد أختـــص إصطلاح "التفـــسير" بما كان بالحديث
والأثر، وما كان بالرأى والاجتهاد فقد أسموه إصطلاح" التأويل"
أو فيما بعد "بالخواطر القرآنية".
ولما تعددت العلوم
وتميزت عن بعضها واستقل كل علم منها باسم خاص كعلم النحــو ،وعلــم اللغة ،وعلم الفقه،
وعلم الكلام، إتضح أن القرآن يُفسر على مناهج مختلفة ولأغراض متعددة.
فالفقهاء يهتمون
فى تفاسيرهم ببيان الأحكام التى اشتملت عليها آيات القرآن، والمتكلمين يهتمون بالجانب
العقائدى فى القرآن، واللغويين يؤلفون التفاسير التى تشرح معانى الألفاظ
وتبين غريبها، والنحويين يهتمون فى تآليفهم بإعراب القرآن، ومن ثم يكون
القرآن الكريم أساسا للنهضة العلمية عند المسلمين ومازال وسيظل مرجعاً وإماماً لأصحاب
العلوم المختلفة.
واخيرا علم أهل
الكتاب، أو الإسرائيليات. وقد نهل منه المفسرون ما شاء الله أن ينهلوا، ولجأوا إليه
لاستكناه ما غلق من قصص القدماء وأحداثهم التي أجملها كتاب الله العزيز مما لا يتعلق
بأحكام شرعية. ونرى ابن عباس رضي الله عنه على ما له من العلم بالعربية يجالس كعب الأحبار، ويأخذ عنه. وذكر
ابن خلدون أهل الكتاب فقال:" وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى،
وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم، ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة
من أهل الكتاب، ومعظمهم من حمير، الذين أخذوا بدين اليهود، فلما أسلموا بقوا على ما
كان عندهم مما لا تعلق به الأحكام الشرعية التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة،
وما يرجع إلى الحدتان والملاحم وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد
الله بن سلام، وأمثالهم. فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض
بأخبار موقوتة عليهم، وليست مما يرجع إلى الأحكام فتتحرى في الصحة التي يجب بها العمل،
وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات.
وعودا
للتفسير بالمأثور هناك أمثلة متعددة له أذكر منها مثالا حيثما أستخرجت منه
تفسير آياتى المذكورة مسبقا ومحل دراستى المعروضة:
مثال من التفسير بالمأثور:
تفسير الإدفــوى" والذى أنا بصدده الآن "مجلدات الإستغناء فى تفسيـــــــر القرآن وعلومه" ومؤلفه محمد بن على بن أحمد أبو بكر الإدفــوى المصرى الإمام
المُقرىء النحوى المُفسر (304هـ -916م- 388هـ -998م)،حيث جاء فى مقدمة مجلداته: قال
أبو بكر رحمه الله:" هذا الكتاب ألفَّناه يجمع ضروبا من علوم القرآن من بين كلام
غريب، ومعنى مستغـلق، وإعراب مُشكل، وتفسير مروى ،وقراءة مأثورة وناسخ ومنسوخ، ومحكم
ومتشابه ،وأذكر فيه إن شاء الله ما بلغنى من اختلاف الناس فى القراءات، وعدد الآيات،
والوقف والتمام ،وأبين ( أوضح) تصريف الكلمة واشتقاقها إن علمت ذلك ،وما فيه حذف لا
اختصار ،أو إطالة لإفهام ،وما فيه تقديم وتأخير، وإذا مر العامل من عوامل الـنحــو
ذكرته مع نظائره فى باب أفرده له ،واذكر أين نزلت السورة بمكة أم بالمدينة، على قدر
الطاقة ومبلغ الرواية ، حتى يكون هذا الكتاب مُكتفيا وعن فى تفسير شىء هو فيه مستغنيا
ـ ( ومن هنا جاء إسمه الإستغناء فى تفسير القرآن وعلومه)ــ وبالله التوفيق والحول والقوة
وإليه مفزعنا فى درك( إدراك) كل طلبه ،والتوفيق لما فيه صلاح أمورنا من عمل بطاعته،
وعقد برضاه، وقول صادق يرفعه عمل صالح ،إنه على كل شىء قدير، وروى عن النبى صلى الله
عليه وسلم أنه قال :" تركت فيكم أمرين لن تضلوا ماتمسكتم بهما كتاب الله وسنة
نبيه". وقال صلى الله عليه وسلم:"
إعملوا بالقرآن ، أحلوا حلاله، وحرّموا حرامه وأقتدوا به ،ولا تكفروا بشىء منه، وما
تشابه عليكم فردوه إلى الله ثم أولى العـلم من بعـدى، كيما يخبروكم به وآمنوا بالتوراة
والإنجيل والزبور، وما أوتى النبيون من ربهم ،ويسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنه
شافع مشفع، وما حل مصدق ،ألا ولكل آية نور يوم القيامة، وإنى أ ُعطيت سورة البقرة من
الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين من ألواح موسى ،وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة
البقرة من تحت العرش وأ ُعطيت المفصل نافلة".
وعنه صلى الله عليه وسلم:" أُعطيت السبع
مكان التوراة وأعطيت المثانى مكان الزبور وأعطيت آلـ حم مكان الإنجيل ، وفصلت بالمفصل."
وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم أنه كان بأضاءة
بنى غفار فأتاه جبريل – عليهما الصلاة والسلام- فقال:" إن الله تعالى يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد فقال صلى الله
عليه وسلم: أسأل الله المعافاة والرحمة إن ذلك ليشق على أمتى ولا يستطيعون... ثم حتى
أتاه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف فمن قرأ على حرف منها
فقد أصاب."
وفى
حديث آخر": ولك بكل ردة مسألة تسألنيها فقلت اللهم اغفر لأمتى وأخرت الثالثة ليوم
يرغب إلىّ فيه الخلق حتى إبراهيم -على نبينا وعليه أفضل الصلاة والتسليم-.( أخرج هذا
الحديث بمعناه مسلم(1/562) كتاب صلاة المسافرين( الحديث274) باب بيان أن القرآن على
سبعة (أحرف)
وعن ابن عباس إنه قال:" تفسير القرآن على
أربعة أوجه: تفسير يعلمه العرب ، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يُعذر أحد بجهله".
": يعنى من الحلال والحرام، وتفسير لا يعلم
تأويله إلا الله ؛ فمن ادعى علمه فهــــو كاذب".(أخرجه بن الأنبارى فى الوقف والإبتداء
1/101-رقم 119 والنحاس فى القطع والائتنافك213).
وعن ابن مسعود رحمه الله أنه قال:" مثل
القرآن كمثل رجل مر بثغب( بشعب - غدير) فيه من كل النبات، فأعجبه ما رأى من نور النبات
فجعل يعجب ويقول ما رأيت كاليوم غيثا أحسن من هذا فبينما هو كذلك مر بروضات دمثات فأنساه
تعجبه بهن ما رأى من النبات الأول فمثل النبات كمثل عظم القرآن ومثل الروضات الدمثات
كمثل آل حم." وعنه أنه قال": إن كل مؤدِب يحب أن يؤتى أدبه وإن أدب الله
القرآن". عن أبى العالية أنه قال:" نزلت فى أول ليلة من شهر رمضان ونزلت
التوراة لست ونزلت الزبور لثنتى عشرة ونزل الإنجيل لثمانى عشرة."
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله جل ثناؤه":
إنا أنزلناه فى ليلة القدر" قال دفع إلى جبريل فى ليلة القدر جملة ، فرفع فى بيت
العزة ثم جعل ينزل تنزيلا وكــــــان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة".ويسترسل
الإمام الشيخ أبو بكر الإدفــوى ( رحمه الله):" فينبغى لذى اللب من أهل القرآن
أن يتلوه حق تلاوته ويتدبره ويقف علــــــــــيـــــــه وأن لا يكون غرضه التلاوة دون
الدراية قال الله جل ثناؤه": أفلا يتدبــــــــــرون القرآن" محمد47/24
النساء4/82 .
وقيل": يارسول الله ما بالنا إذا قرأنا
القرآن لا يكون كما نسمعه منك؟ قال: لأنى أقرأه لبطن وتقرأونه لظهر". المروزى122
فى قيام الليل.
وبالنسبة للسبع قراءات قال الإمام الشيخ أبو
بكر الإدفـــوى": أما قول النبى أنه أنزل على سبعة أحرف فنذكر جواب ذلك ههنا:
عن أبى غانم المظفر بن أحمد بن حمدان قال: أما قول النبى أُنزل القرآن على سبعة أحرف
فإنه يكون على وجهين كلاهما فى الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم.
وأحدهما: أن يكون على سبعة أوجه من الأحكام وهو
قوله صلى الله عليه وسلم لإبن مسعود:" إن الكتب كانت تنزل من باب واحد وعلى حرف
واحد وإن هذا القرآن نزل من سبعة أبواب وعلى سبعة أحرف، حلال وحرام، وآمر وزاجر ، وضر
ب أمثال، ومحكم ومتشابه"
والوجه الأخر قوله صلى الله عليه وسلم أتانى
جبريل عليه السلام فقال: إن الله عز وجل ثناؤه يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف
فهذا كأنه - والله أعلم - مفسر للأول لأنه بوسعه أن يقرأ على سبعة أحرف بعد أن كان
أمره أن يقرأه على حرف واحد.
ومعـناه
عندى – والله أعلم - أن القرآن سبع لغات متفرقة فى جميعه فبعضه بلغة هؤلاء حتى يأتى
على السبع كلهاوالقرآن محيط بجميع اللغات الفصيحة."
"يؤمنون" فإن نافعا فى رواية ورش وأبا
عمرو لا يهمزانه وكذلك" يأكلون" و" يأمرون" و"يأخذون"
و" يألمون" ولا شيئا مما يشبهه يخفف الهمز فى جميع ذلك والباقون ..يهمزون،
ذلك كله على الأصل وهو أيضا قراءة نافع القديمة قبل تأليفه ( المقرأ ) الذى ألفه واختاره
لنفسه( الاستغناء جـ1 صـ44).
والنبىء
والأنبياء ، والصابئين ،والنسىء والبرية ، وسأل سائل ، وما أشبه ذلك ؛ فتحقيقه وتخفيفه
بمعنى واحد" ( من مقدمة الإمام قبل تفسير سورة البقرة).
البقية فى المقال القادم&
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق