(2)
مما لا شك فيه أن غاية كل متحرك إلى سكون، ونهاية كل متكون
ألا يكون ، فإذا كان كذلك ؛ فلِما التهالك على الهالك؟.
فذلك هو الدستور والإلتزام ومازال هو نهج الصوفية الواعية
الراشدة فى مدارج السلوك العملى، كما اختاره السادة فى الآية الشريفة:" التائبون
، العابدون ،الحامدون، السائحون، الراكعون ، الساجدون ، الآمرون بالمعروف ، والناهون
عن المنكروالحافظون لحدود الله وبـشـــــر المؤمنين"1 التوبة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى فى كتابه" الصوفية والفقراء":
الحمد لله أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورا فى القرون الثلاثة الأولى وإنما
اشتهر التكلم به بعد ذلك".
وقد نُقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد بن حنبل
وأبى سليمان الدارانى وغيرهما.
وقد رُوى عن سفيان الثورى أنه تكلم به وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصرى
وتنازعوا فى المعنى الذى أضيف إليه الصوفى؛ فإنه من أسماء النسب
القرشى والمدنى ، وأمثال ذلك ، فقيل أنه نسبة إلى أهل الصُفة وهو خطأ؛ لأنه لو كان
كذلك لقيل صُفى، وقيل أنه نسبة إلى الصف المقدم بين يدى الله وهو خطأ ؛ فإنه لوكان
كذلك لقيل : صَفى، وقيل نسبة إلى صوفة بن أُدّ بن طابخة قبيلة من العرب كانوا
يجاورون بمكة منذ الزمن القديم ، ينسب إليهم النُساك وفى لسان العرب لإبن منظور
يقول:" الصوف للضأن، والصوفة أخص، ثم قال: والصوفة: كل من ولى شيئا من عمل
البيت الحرام وهم الصوفان.. وصوفة: أبو حى بن مضر كانوا يخدمون الكعبة فى الجاهلية
وهو أعظم ما يولى يومئذ، ثم قال :" وصوفة حى من تميم كانوا يجيزون الحاج فى
الجاهلية من مِنى فيكونون أول من يدفع ؛ فيقال فى الحج:" أجيزى
صوفة".ويقول ابن الجوزى: أنبأنا محمد بن ناصر عن أبى اسحق إبراهيم بن سعد
الحبال، قال: قال أبو محمد بن سعيد الحافظ ، سألت وليد بن القاسم إلى أى شىء
يُنسب الصوفى؟ فقال: كان قوم على دين إبراهيم فى الجاهلية يُقال لهم : صوفة،
انقطعوا إلى الله عز وجل وقطنوا الكعبة، فمن شُبه بهم ؛ فهم الصوفية، ثم قال:
فهؤلاء المعروفون بصــوفة، ولد الغوث بن مر بن أخى تميم وفى المعجم الوسيط:"
صوَّف فلانا: جعله من الصوفية و" تصوف" فلان صار من الصوفية.ويذهب البعض
إلى إرجاع إسم التصوف إلى أنه لفظ جاهلى عرفته العرب قبل ظهور الإسلام وقال
الشيخ" أبو نصر عبد الله بن سراج الطوسى" ت378هـ -988م" فى كتابه "
اللمع فى التصوف:" وأما قول القائل أنه إسم محدث أحدثه البغداديون فمحال ؛
لأنه فى وقت الحسن البصرى كان يُعرف هذا الإسم وكان " الحسن" قد أدرك
جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنهم وقد روى عنه أنه قال
:" رأيت صوفيا فى الطواف فأعطيته شيئا فلم يأخذه ، وقال معى أربعــــة دوانيق ؛
فيكفينى ما معى".
فالتصوف طريقة سلوكية قوامها التقشــف والتحـــلى بالفضائل ؛ لتزكى النفس وتسمو
الروح. " وعلـــــم التصوف ، مجموعة من المبادىء التى يعتقدها المتصوفة والآداب
التى يتأدبون بها فى مجتمعاتهم وخلواتهــــــــم والصوفى من يتبع طريقة "التصوف". ومن
هذا نخلص أنها كلمة عربية قديمة خالصة.
وإذا تعرضنا للتصوف الإسلامى عند
" أبا محمد الجريرى" ت311هـ من الرسالة القشيرية فيقول:" هو الدخول
فى كل خُلق سنى، والخروج من كل خُلق دنى"ومن ثم فالتصوف خُلُق" من زاد عليك
فى الخُلُق ، زاد عليك فى التصوف" وبالتالى زاد عليك فى الإنسانية ؛ فنفع
وأنتفع وأدى رسالة البشرية بروح سماوية عالية كما قال تبارك وتعالى:"وإنك
لعلى خُلُق عظيم"4 القلم
ويذكر " أبو الحسين
النورى" فى تذكرة الأولياء فى تعريفه للتصوف " : ليس التصوف رسما، ولا
علما ، ولكنه خُلُق" ثم يعلل ذلك بقوله؛ " لأنه لوكان ؛ لحصل بالمجاهدة
، ولو كان علما ؛ لحصل بالتعلم ، ولكن تخلق بأخلاق الله ( صفاته )، ولن تستطيع أن تقبل علـــــــى الأخلاق الإلاهية
بعلم أو رسم ".
ونجد " أبو بكر الكتانى" ت322هـ يقول أن":
التصوف صــفاء ومشـاهدة" وعليه يكون تعريف التـصـــــــوف بالوسيلة وهى الصفاء عن طريق
مجاهــــدة النفــــس وترويضها بالرياضات المختلفة من صلاة ونوافل وصيام وتهجد وتأمل فى المُلك:"
"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السماوات والأرض
، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ؛ فقنا عذاب النار"79 آل عمران
ويشعرنا الإمام البوصيرى ببردته فى ذلك بقوله:
وخالف النفس
والشيطان واعصهما
وإن
هما محضاك النصح فاتهمِ
ومن الصفاء ينتقل المتريض إلى " المشاهدة" أو كشف الحجاب ويُعتبربمثابة المكافأة من رب العزة لعـــــــبده المجاهد:
:" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع
المحسنين"العنكبوت69
والصفاء بمعناه له
مدلول واسع هو أن يتحرر الإنسان من الدنيا حتى ولو ملكها عريضة طويلة؛ فيتحرر من الجاه
، ومن الإنغماس فى الملذات ، ومن الجرى خلف
المال، ومن حب السلطان ، ومن حب الترف ، ومن الصفات التى تتنافى مع الفضيلة.
وخاتمة مطاف هذه الوسائل التهيؤ الكامل للمشاهدة ؛ فيجود
الله عليه بها إن شاء فى أى وقت يشاء.
وكما يقول الإمام الغزالى": وإذا تولى الله أمر القلــــب
فاضت عليه الرحمة وأشرق النور به، وانشرح الصدر وانكشف له سر الملـــكوت.. وتلألأت
فيه حقائق الأمور الإلاهية".
وتقول السيدة رابعة العدوية رضى الله عنها ما معناه": اللهم إن كنت
أعبدك خوفا من نارك فأ لقنى فيها، وإن كنت أعبدك طمعا فى جنتك فأحرمنيها، وإن كنت
اعبدك لوجهك الكريم فلا تحرمنى من رؤيته"...................................
والمشاهدة التى هى الغاية ( للصوفية) هى أيضا تحقيق واقعى للتعبير الذى نطق
به فى كل آونة حيثما يقول :" أشهد أن لا إله إلا الله" فالشهادة هى غاية
الصــوفى وهو إنما يسعى جاهدا إليها بشتى الوسائل ليحقق بالفعــــــل مضمون ما يلفظ به
قولا أو مايقوله حروفا.
وقد روى الطبرانى فى معجمه الكبير عن أبى أمامة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: قال الله تعالــــــــى :"مايزال عبدى يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه فأكــــون
سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ولسانه الذى ينطق به وقلبه الذى يعقل به
فإذا دعانى أجبته وإذا سألنى أعطيته وإن استنصرنى نصرته وأحب ما تعبدنى عبدى به:
النصح لى".
فإن معنى الرضا أن يبذل الإنسان
جهده ليصل إلى ما يحبه الله ورسوله ولكنه من قبل الوصول إليه وفى أثناء محاولاته
للوصول إليه مطمئن إلى النتيجة علـــــى أى وضع أحبها الله راض بها و( إليه
المصير)و(لله عاقبة الأمور)، (إليه يرجع الأمر كله).
ويقول الإمام أبو نصر السراج الطوسى :" والرضا باب الله
الأعظم ، وجنة الدنيا، وهو أن يكــون قلب العبد ساكنا تحت حكم الله عز وجل – ويضيف-
والرضا آخر المقامات وتهذيب الأسرار لصفاء الأذكار وحقائق الأحوال".
ويستكمل العارف بالله الشيخ أحمد
رضوان صاحـــب النفحات الربانية بأن ": التصوف هو العمل بالكتاب والسنة
والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلـــــم، والصوفى رجل غلبه حب الله ورسوله على حب
كل شىء فهو مجذوب نحو الحق والفرق بين الصوفية وعلماء الظاهر ، أن الصوفية لا
يجمعون كلاما وإنما يتكلمون من فيض الله على حسب المناسبات ؛ لأنــــه سبحانه وتعالى
رحيم بهم، يخرجهم من التجلى الجلالى إلى الطمأنينة فلا يجمعون كلاما بين يديه،
فإذا رفع فيهم التجلى الجلالى ، نطقوا بما يثبت فى قلوبهم على مقتضى الكتاب
والسنة".
الزهــــد والتصـــــــــوف:
" إن
الذى يملك هو الذى يزهد ، أما الذى لا يملك ففى أى شىء يزهد ؟! :
فقد كانت حــــــــــــياة المسلمين الأولين أبعــــــــــد ما
تكون عن أسباب الترف المادى.. وبعد الصحابة والخلفاء الراشدين انتشر البذخ
فحافظ بعض المسلمون على سنة الخلفاء والصحابة فى الملبس فأطلق عيهم صوفيون وأولهم
الصوفى( أبو هاشم الكوفى) 150هـ. المرتدى للصوف تقشفا وكان ملازما للمسجد بالكوفة،
ولذا هناك من ينسب الصوفية لارتداء الصوف الذى كانوا يرتدونه الزهاد والنساك ،
وهناك من ينسبها للصفاء والصفو بمعنى أنه منسوب لفعل الله به ؛ فصافاه فصوفى فسُمى
صوفيا وبذلك أنشد أبو العباس المرسى قائلا:
تخالف الناس فى الصوفى واختلفوا
وكلهم قال قولا غير
معروف
ولست أمنح هذا الإسم غير فتى
صافا فصوفى حتى سُمى الصوفى
ــ أو الصُفة التى ينتسب إليها أهل الصُفة المعتكفـــــين بمؤخرة مسجد سيدنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصوفى يتريض بمجموعة من الصفات
تأتى حسب ترتيب حروف الكلمة المذكورة آنفا: فحرف الصاد : يتضمن معانى الصبر الصبر
والصفاء والصدق مع الله والناس:" واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم
ولا تكن فى ضيق مما يمكرون".127النحل.
وحرف الواو: وهو الوفاء لله ووجده ووده والوجل منه": أفأمنتم أن يخسف
بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا."68 الإسراء.
وحرف الفاء وتندرج تحته معانى فقره
وفقده والفناء فيــه عز وجل والحب له به فيه بمعنى: الحب لله والكراهية لمن يغضب
الله سبحانه وتعالى": قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم
ذنوبكم والله غفور رحيم". 31 آلعمران.
فإذا اجتمعت هذه الصفات فى شخص ما
فإنه يستحق ياء النسب فيصير صـــوفـــــى وقد أضيف إلى حـــــــضرة مولاه.
فالتصوف أعلى من الزهد لأن الزاهد يشترى الآخـــرة بالدنيا طمعا فى الجنة ، أما
الصوفى فيزهد فى كل شىء طمعا فى رؤية الله ، كما قالت السيدة " رابعة
العدوية": أُحبك حبين حب الهوى وحبا لأنك أهلا لذاكا.. لا خوفا من نارك ولا
طمعا فى جنتك:
ليت مابينى وبينك عامر
وما بينى
وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين
وكل الذى فوق التراب
تراب
فمعنى التصوف هو " التخلى عن كل دنى والتحلى بكل سنى". سلوكا إلى
مراتب القرب والوصول؛ فهو إعادة بناء الإنسان وربطه بمولاه فى كل فكر وقول وعمل
ونية وفى كل موقع من مواقع الإنسانية فى الحياة العامـــــة.
ويتركز هذا التعريف فى كلمة واحدة هــــــــــــــــــــى
( التقوى) فى أعظم مستوياتها
الحسية والمعنـــــــــوية؛ فالتقوى عقيدة وخلق ، فهى معاملة الله بحسن العــــبادة ومعاملة
العباد بحسن الخلق وهو ما نزل به الوحى على كل نبى لِبَثهِّ فى الإنسانية كحق من
حقوقها الرفيعة فى الإسلام وجوهر التقوى هو " التزكى"و" قد أفــــلح من
تزكى"و" قد أفلح من زكاها".
(البعرة تدل على البعير والسير يدل على المسير وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألاتدل على الخالق القدير) |
والصوفى الحق هو المسلم النموذجى ، فقد أجمع كافة أئمة التصوف على أن
التصوف هو الكتاب والسنة فى نقاء وسماحة واحتياط:" ولكن كونوا ربانيين بما
كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون"79 آل عمران.
فالتصوف إذن هو ربانية الإسلام الجامعة للدين والدنيا كما قال الشيخ شهاب
الدين أبو حفص عمر بن محمد السهروردى رحمه الله تعالى :" إن الصوفى من يضع
الأشياء فى مواضعها ويدبر الأوقات
والأحوال كلــــها بالعلم يقيم الخلق مقامهم ويقيم أمر الحق مقامه ويستر ما ينبغى أن
يستر ويظهر ما ينبغى أن يظهر ويأتى بالأمور من مواضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال
معرفة ورعاية صدق وإخلاص".
وأيضا الإمام الجنيد": من لم يحصِّل عــــــــــلوم القرآن والحديث فليس
بصوفى"، وأجمع كل أئمة التصوف على ذلك مثل القشيرى والشعرانى ومن بينهما ومن
بعدهما.
والتميز عن عامة المسلمين أساسها العمل ، فإذا عمل الصوفى بمقتضيات عمله
كقدوة وداعية فإنه يتميز بمقدار جهده شأن كل متخصص وإلا فهو دون كـــل الناس إذا
انحرف أو شذ بل إن تجاوز بقوله تعالى": ولكل درجات مما عملوا".19 الأحقاف.
فقد ذكر القرآن الكريم من المسلمين أصنافا: الخاشعين والقانتين ، والتائبين ، وكلهم من أهل " لا إلاه إلا الله".
ومن الخطأ القول بأن التصوف لم يعرف إلا بعد ثلاثة قرون من انتشار الإسلام
سواء مادته أو حقيقته وأصوله وموضوعه فالخطأ هنا يستحيل إلى خطيئة؛ فمادة التصوف
من حيث العبادة والخلق بأوسع موضوعاته موجودة مشهورة فى الكتاب والسنة شأن بقية
مواد علوم الدين.
ولم يكن هذا بدعا، فلم يكن فى هذا العهد علــــــــم باسم ( الفقه) ولا باسم (
الأصول) ولا باسم( مصطلــــــــــــح الحديث) ولا غير ذلك من علوم الدين، ولكن المادة كانت
موجودة بين دفتى الكتاب والسنة، فلمَّا دونت العلوم ورسمت القواعد والمصطلحات أطلقت الأسماء
رجحته الظروف الواقعية آنذاك.
وعليه فلماذا ننكر تسمية التصوف ولا ننكر تسمية بقية علـــــــوم الدين والشأن
واحد، لــــماذا ننــــــكر تسمية
الفصل الثانى فى العدد القادم&