د.مصطفى فوضيل
اشتهر مكي أبي طالب القيسي(1) (تـ: 437) عند كثير من الباحثين بكونه مشتغلا بالقراءات والنحو أكثر منه مشتغلا بالتفسير، ولئن كان بعض المفسرين كابن عطية والقرطبي ينقلون عنه أقوالا في التفسير، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لاعتباره من لمفسرين الذين اشتغلوا بالتفسير درسا وتأليفا، حتى قيض الله لهذا الأمر الدكتور أحمد حسن فرحات – حفظه الله – ليؤلف كتابا خاصا عن جهود مكي في التفسير، (2)، وخلص إلى أن لمكي تفسيرا كاملا لكتاب الله ، موجودا غير مفقود، تحتفظ بنسخ منه مخطوطة، عدة خزائن مغربية وقد قدر لصاحب هذا المقال أن يسهم – مع ثلة من الباحثين – في تحقيق هذا التفسير، ونسأل الله تعالى أن ييسر في إخراجه وطبعه حتى يأخذ مكانه اللائق في المكتبة القرآنية ليستفيد منه المسلمون عموما، والباحثون على وجه الخصوص.
ونريد في هذا المقال أن نشرك القارئ معنا في التعرف على جانب من هذا التفسير بما يبرز قيمته، ويكشف عن جانب آخر من شخصية هذا العالم الفذ الذي كرس حياته لخدمة كتاب الله ، قراءة وتجويدا وإعرابا وتفسيرا.(3)
قال مكي :«جمعت أكثر هذا الكتاب من كتاب شيخنا أبي بكر الأدفوي – – وهو الكتاب المسمى«بكتاب الاستغناء» المشتمل على نحو ثلاثمائة جزء في علوم القرآن، اقتضبت من هذا الكتاب نوادره وغرائبه ومكنون علومه مع ما أضفت إلى ذلك من الكتاب الجامع في تفسير القرآن، تأليف أبي جعفر الطبري، وما تخيرته من كتب النحاس،(4) وكتاب أبي إسحاق الزجاج،(5) وتفسير ابن عباس،(6) وابن سلام،(7) ومن كتاب الفراء..(8) ومن غير ذلك من الكتب في علوم القرآن والتفسير والمعاني والغرائب والمشكل، انتخبته من نحو ألف جزء أو أكثر، مؤلفة في علوم القرآن، مشهورة مروية».(9)
ثم قال مكي:«واجتهدت في تلخيصه وبيانه واختصاره». وقال أيضا:«وجعلته هداية إلى بلوغ النهاية في كشف علم ما بلغ إلي من علم، طيب الله تعالى ذكره، مما وفقت إلى فهمه، ووصل إلي علمه من ألفاظ العلماء...».
وفي خاتمة تفسيره يقول:«... ولسنا ننكر أن يغيب عنا من فهمه وعلمه كثير مما وصل إلى غيرنا، وأن يكون قد غاب عن هذا الغير الكثير مما وصل إلى فهمنا وعلمنا».(10)
ويمكن أن نستخلص مما سبق ما يلي:
1- أن مكيا اعتمد في تفسيره على مصادر أساسية جمع منها أكثره، وأخرى ثانوية كان يصطفي منها ويتخير.
2- أن مكيا استعمل في وصف جهده في التفسير عبارات تدل على أنه اجتهد في طريقتي الجمع والفهم، أي إنه كان عالما بما يجمع، واعيا بما ينقل، متفاعلا مع النص القرآني، مما يدل إلى أن إسهامه في التفسير لم يقتصر على حفظ آراء السابقين بل أضاف إليها مما فتح الله عليه به.
وهذا الأمر يتبين من خلال معرفة كيفية تعامل مكي مع مصادره ترتيبتا واصطفاء واختيارا، وكيفية تعامله مع الأقوال التي أوردها نقدا وجمعا وترجيحا وانتصارا.
أولا: بالنسبة للمصادر سوف نركز – أساسا – على المصدرين الأساسين وهما: «الاستغناء» للأدفوي و «جامع البيان» للطبري.
أ- كتاب الاستغناء لأبي بكر الأدفوي:
يقول الدكتور أحمد حسن فرحات:
«إن هذا الكتاب يعتبر من أوسع ما كتب في التفسير، حيث بلغت مجلداته مائة وعشرين مجلدا، ولم يزد عليه في عظم التأليف إلا عبد السلام القزويني شيخ المعتزلة ببغداد المتوفى سنة 483هـ، فإنه ألف تفسيرا في ثلاثمائة مجلد، منها سبعة مجلدات في الفاتحة، وقد ألف الأدفوي هذا الكتاب في اثنتي عشرة سنة، ويبدو أنه فقد، ولا يوجد منه الآن أية نسخة فيما أعلم من فهارس المخطوطات التي اطلعت عليها»، ثم استدرك الدكتور في الهامش فقال: «وجد من كتاب الاستغناء جزء صغير في المكتبة الوطنية التونسية، كما يوجد نسخة كاملة من الكتاب في تركية، ويعمل أحد طلابنا في تحقيقه».(11)
والظاهر مما ذكره الدكتور فرحات، أن هذا الكتاب قصد مؤلفه إلى أن يستغني القارئ به عن غيره، كما يدل عليه العنوان، وكأنه كان يهدف إلى جمع حصيلة الفهوم والعلوم التي حامت حول كتاب الله .
ولم أعثر لحد الآن على ذكر الأدفوي داخل«الهداية» باستثناء ما جاء في تفسير الآية 164 من سورة الأنعام أن الأدفوي روى بسنده عن ورش أنه اختار من نفسه الفتح في (مَحْيَايَ). قال محقق الجزء الذي يضم هذه الآية:«ولا ندري – على التحقيق – أأخذ هذا الإسناد من كتاب »الاستغناء« وهو الظاهر، لما ورد في مقدمة مكي، أم أخذه من غيره من مؤلفات الأدفوي شيخه، أم حفظه مكي عنه».(12)
ويمكن تفسير غياب الأدفوي في الهداية أن مكيا اكتفى بالإحالة العامة في المقدمة، إلا أنه لا ريب في أن من فوائد العلم والمنهج أن مكيا لو ذكر شيخه في موطن الاستشهاد أو نقل عنه نصوصا مع نسبتها إليه لتبين لنا نوع ما نقله من كتاب الاستغناء، ولأمكننا ذلك – من خلال المقارنة مع المصادر الأخرى – من تبين ملامح المنهج الذي سلكه في اعتماد هذا الكتاب.
إن بقاء هذا الكتاب مخطوطا حتى الآن يضعنا أمام مشكل، وذلك أن عبارة مكي في المقدمة صريحة في أن عمدة «الهداية» كتاب «الاستغناء»، مع أن الذي يدل عليه حال «الهداية» من خلال مقابلته بجامع البيان للطبري – هو أن الطبري حاضر بقوة في «الهداية»، سواء أتعلق الأمر بالنقول والأحاديث والأقوال المأثورة، أم بالمعاني التي يردف بها الآيات مباشرة، أي إن الطبري حاضر بما يقوله وبما ينقله ويرويه.
والحق أننا لا نستطيع أن نجزم بشيء في هذه المسألة ما دام كتاب الاستغناء ليس بين أيدينا، لاحتمال أن يكون مكي قد نقل عن الطبري بواسطة الأدفوي، فيزول حينئذ ذلك الإشكال، غير أنا نحتاج حينئذ أيضا إلى التمييز بين طريقة نقل الأدفوي عن الطبري وبين طريقة نقل مكي عن الطبري، وذلك من أجل تحديد المادة المنقولة عن كل مصدر من مصادر مكي في التفسير، وفي غياب ذلك لا يبقى لنا إلا أن نستند إلى كلام مكي في تقديمه لكتاب الاستغناء على كتاب جامع البيان.
ب - «جامع البيان» لأبي جعفر الطبري (تـ:310):
ذكر مكي في المقدمة أنه أضاف إلى ذلك الكثير المجموع من «الاستغناء» ما أخذه من «جامع البيان»، وهذا يعني أن مكيا قد تنبه إلى فوائد في جامع البيان لم ينتبه إليها شيخه الأدفوي، أو أنه تنبه إليها، غير أنه أهملها لعدم انسجامها مع مقصده في كتابه وخطته في تأليفه، ويقال نفس الشيء في المصادر السابقة على الأدفوي، التي رجع إليها مكي: ككتب النحاس، والفراء والزجاج وغيرهم، وهذا يدل على جانب من شخصية مكي في الاختيار والاختصار والجمع والترجيح وبناء كل ذلك في نسق متماسك.
وقد نهج مكي – في تعامله مع كتاب الطبري – نهجا خاصا يدل على ملامح من شخصيته وإبداعه، ويمكن إجمال هذا المنهج في النقاط التالية:
• قد يذكر معنى منقولا عن السلف بلفظ الطبري، وذلك أن من عادة الطبري في تفسيره أن يذكر معنى الآية بلفظه، ثم يستدل بأقوال السلف من الصحابة والتابعين، ويستعمل عبارة مطردة عنده وهي قوله: «ذكر من قال ذلك»، إشارة من الطبري إلى أن كلامه الأول إنما هو ترجمة عن كلام السلف – فيما بعد – وتفصيل لأقوالهم، ولعل هذا هو ما دفع مكيا – في كثير من الأحيان – إلى ذكر أقوال السلف بعبارة الطبري، فمن ذلك مثلا ما جاء في تفسير قوله تعالى: "والمرسلات عرفا" (المرسلات:1) قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وأبو صالح وقتادة: «والمرسلات» الرياح، «عرفا»: يتبع بعضها بعضا.(13)
فالظاهر أن مكيا – بمقارنة مع الطبري – قد جمع في هذا القول بين من يفسر المرسلات بأنها «الريح» هكذا بالمفرد – كما في الدر المنثور(14) – أيضا – منسوبا إلى من ذكرهم مكي، وبين من يفسر قوله:
«عرفا»: أنه«يتبع بعضها بعضا» وهذا قول صالح بن بريدة.
فأما الطبري فقد جمع المعنى الكلي لهذه الأقوال، فذكره أولا ثم أتبعه بنص الأقوال مسندة إلى أصحابها، وأما مكي، فإنه اكتفى بذكر المعنى الكلي عند الطبري ونسبته هو نفسه إلى أولئك، ومما يدل عليه أن «الرياح» مذكورة بالجمع أيضا في كلام الطبري.
• وقد يذكر كلام الطبري لكن مع التصرف فيه إما بالاختصار وإما ببعض الإضافات التي قد تكون في بعض الأحيان مقدار كلمة أو كلمتين، إلا أن لها دلالة خاصة فمن ذلك ما قال الطبري في قوله تعالى: "إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" (المنافقون:6) «إن الله لا يوفق للإيمان القوم الكاذبين عليه، الكافرين به، الخارجين عن طاعته».
وقال مكي:«أي لا يوفق القوم الذين خرجوا عن طاعته»(15) فهذا اختصار جيد، لأنه يحمل من المعاني أكثر مما يحمله كلام الطبري، وذلك أنه – من جهة – ترك التوفيق على عمومه ولم يقيده بالهداية إلى الإيمان، ومن جهة أخرى ذكر الخروج عن الطاعة وحده غير مقترن بالكفر، وتركه على عمومه ايضا بحيث يحتمل دخول غير الكافرين في الخطاب، وذلك لاحتمال وقوع المسلم في الفسق بالخروج عن طاعة الله ، فيحرم بذلك من التوفيق.
قال الراغب:«الفسق أعم من الكفر، والفسق يقع بالقليل من الذنوب وبالكثير، لكن تعورف فيما كان كثيرا، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضه، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة»،(16)
ومن هذا الباب أيضا ما قال الطبري في قوله تعالى:"ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" (الطلاق:2): يقول تعالى جل ذكره: هذا الذي أمرتكم به، وعرفتم من أمر الطلاق، والواجب لبعضكم على بعض عند الفراق والإمساك، عظة منا لكم نعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فيصدق به».
وقال مكي: «أي هذا الذي عرفتكم به من أمر الطلاق عظة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر فيتبعه ويعمل به».(17)
فقوله: «يتبعه ويعمل به». إضافة جيدة ليست عند الطبري، وهي تفسير لنوع الإيمان المراد في الآية، وهو الإيمان الدافع إلى العمل، وفيه إشارة إلى أنه لا يمكن أن يتحقق اتعاظ بغير عمل كما لا يمكن أن يحدث اتعاظ بدون إيمان.
ومن هذا الباب أيضا ما قال مكي في قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة" (القيامة:21) أي حسنة ناعمة جميلة من السرور والغبطة،هذا قول جميع أهل التفسير«.
فقد جمع مكي في هذا النص بين أقوال مما اعتبره الطبري مختلفا، حيث ميز بين ما دل منها على النعومة والجمال وما دل على السرور والغبطة.(18)
وقد أجاد مكي في الجمع، نظرا لسعة لفظ النضارة والنضرة، واحتماله لكل تلك المعاني، وأيضا فإن عبارة مكي تدل على نوع التلازم بين تلك الصفات.
وهذا الكلام في وصف كيفية توظيف مكي لتفسير الطبري إنما هو خاص بالمواضع التي رجع فيها مكي إليه من غير أن يذكره أو يحيل عليه.
أما المواضع التي ذكر فيها الطبري تصريحا أو تلميحا، فيظهر أنه إنما يفعل ذلك لهدف خاص، كأن يذكر اختياره في موضع الخلاف فيفهم من ذلك ميله إلى ذلك الاختيار، مع أن مكيا قد اكتفى في كثير من المواضع حكاية الخلاف ولم يلتفت إلى اختيارات الطبري على الرغم من وجودها وقوتها.
ومن النماذج في الميل إلى اختيار الطبري ما جاء في «الهداية» في معنى «الثجاج» المذكور في قوله تعالى: "وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا" (النبأ:14) قال: وأكثرهم على أنه المنصب وهو اختيار الطبري«.(19)
وقد يذكره في موضع الرد كما جاء في تفسيره لقوله تعالى: "إنه على رجعه لقادر" (الطارق: 8) حيث ذهب الطبري إلى أن الهاء في «رجعه» للإنسان، قال مكي: «وهذا التأويل، فيه بعد في العربية، لأن العامل – على هذا التفسير – في«يوم»«رجعه» فهو داخل في صلته، وقد فرق بين الصلة والموصول بخبر «إن»وهو «لقادر»، وذلك لا يحسن».(20)
وهكذا تعرفنا على نماذج من التعامل المبدع مع المصادر ظهر فيه تفرده واجتهاده وهو ما يتأكد بما يلي:
ثانيا: في كيفية تعامل مكي مع أقوال السابقين:
يستعمل مكي ألفاظا وتعابير تدل على شخصيته في الجمع بين الأقوال والترجيح بين الآراء، والاختيار في موضع الخلاف، والرد القوي بل العنيف أحيانا.
وفيما يلي نظرة موجزة عن منهجه في الجمع والترجيح.
1- قد يجمع بين قولين مختلفين مستدلا لكل واحد منهما بتوجيه لغوي يجعل منه وجها محتملا في الآية، من ذلك قوله في تفسير قوله تعالى: "وقيل: من راق" القيامة:25): «أي: وقال أهله ومن حوله، من يرقيه فيشفيه لما به، وطلبوا له الطب فلم يغنوا عنه من أمر الله شيئا، هذا معنى قول عكرمة وابن زيد، وقال أبو قلابة:«من راق»: «من طبيب وشاف» وهو قول الضحاك وقتادة، وعن ابن عباس أن معناه: وقالت الملائكة – يعني أعوان ملك الموت – من يرقى بنفسه فيصعدها، ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟
قال مكي: يقال رقى يرقي من الرقية، ورقي يرقى من الصعود، واسم الفاعل فيهما راق«.(21)
2- وقد يميل إلى بعض الأقوال اعتبارا بسياق الكلام، قال: «وقوله» "فإذا برق البصر"، من فتح الراء فمعناه لمع عند الموت، ومن كسر فمعناه حار وفزع عند الموت، قال قتادة:«برق البصر»: شخص، يعني عند الموت، وقيل: ذلك يوم القيامة عند المبعث، وسياق الكلام يدل على ذلك، لأن بعده: "وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر، يقول الإنسان يومئذ أين المفر". فهذا كله يوم القيامة يكون، فكذلك"برق البصر" وقيل: الفتح في الراء والكسر لغتان بمعنى لمع وشخص، ويدل على صحة ذلك قوله: "لا يرتد إليهم طرفهم"(إبراهيم:43) فهذا هو الشخوص، لا تطرف أعينهم، وذلك من شدة هول يوم القيامة».(22)
3- وقد يستدل على تصحيحه لرأي ما بآية من موضع آخر من كتاب الله كما في المثال السابق.
4- الاستناد والاهتمام بالأشهر دون الشاذ.
قال مكي:«وحكى الفراء:«ليخرجن الأعز منها الأذل» بنصب «الأذل» على الحال وفتح الياء وضم الراء من «ليخرجن» وهو بعيد، وقد أجاز يونس:«مررت به المسكين» بالنصب على الحال، وحكى سيبويه:«دخلوا الأول فالأول» بالنصب على الحال، وهذه أشياء شاذة لا يقاس عليها القرآن.(23)
5- ظاهر الخطاب: قال مكي«في رده على الفراء بعدما حكى أن المراد بقوله تعالى. "إذ ابعث أشقاها". (الشمس: 12) اثنان هما قدر بن سالف، وآخر-: وفي هذا بعد، لأن ظاهر الخطاب لا يخرج عن حده إلا بدليل، ولا دليل في الآية يدل على أنهما اثنان».(24)
6- كثيرا ما ترد عند مكي عبارات مثل: «أكثر المفسرين» و«أكثر الفقهاء»، «وأكثر العلماء». و«أكثر الناس». ودلالتها الترجيحية واضحة.
وهكذا يتبين أن مكيا تعالى لم يكن جامعا فحسب، بل أضاف إلى مكتبة التفسير مصنفا جديرا بالاهتمام، وربما يكفي في الدلالة على ذلك ما قاله الإمام ابن حزم:«وأما القرآن فمن أجل ما صنف فيه تفسير الهداية».(25)
ونحن نزيد هذه الشهادة تأكيدا بما يلي:
- أن هذا التفسير حفظ فهوما كثيرة نشأت حول كتاب الله ، ولا شك أنها نالت حظا وافرا من نوره، وصارت لها قيمة تاريخية تفيد كثيرا في قراءتنا لكتاب الله وامتلاك القدرة على الاستنباط منه والاجتهاد تحت ظلاله.
- أن هذا التفسير يمثل نموذجا طيبا للاختصار الجيد للمؤلفات المطولة كما تبين ذلك من خلال الحديث عن المصادر.
- أنه سيساعدنا في قراءة مجموعة من النصوص القديمة التي لم تعط حقها من التحقيق الجيد. ومن ذلك مثلا: ما نقله عن الفراء أنه حكى:«ليخرجن الأعز منها الأذل» بنصب«الأذل» على الحال وفتح الياء وضم الراء من «ليخرجن»(26) وقد شكل محقق معاني القرآن للفراء الياء من «ليخرجن» بالضم، وهو اجتهاد منه أو من الناسخ.
وكذلك فعل محقق إعراب القرآن النحاس، (28) الذي حكى عن الفراء «ليخرجن» إلا أنه زاد على ضم الياء كسر الراء.
والفراء لم يفصل العلامات، غير أنه قدر المعنى كأنك قلت:
«ليخرجن العزيز منها ذليلا». ويكون ذليلا منصوبا على الحال كما نص عليه مكي وكما يفهم من كلام النحاس.
وتقدير الفراء محتمل في كل هذه الأشكال، باستثناء كسر الراء، فإنه لا يناسب الحال.
والمراد هنا هو تبين الشكل الذي حكاه الفراء في الأصل. والظاهر أنه كما ذكره مكي، وقد ذكرها كذلك وردها في كتابه (مشكل إعراب القرآن)،(29) إلا أنه لم يذكر الفراء، وذكرها ابن عطية في (المحرر)، (30) وأبو حيان في (البحر) (31) ببيان الشكل نصا، ذكرا ذلك عن الفراء والكسائي فيما يحكيانه.
وأما ما شكلت به هذه الكلمة في إعراب القرآن للنحاس،«ليخرجن» بضم الياء وكسر الراء وفتح الجيم، فلا شك أنه لا يتحقق به الغرض هنا، لأن هذه هي قراءة الجمهور وليست في حاجة إلى أن يحكيها الفراء.
- أن هذا التفسير حفظ علينا مجموعة من القراءات الشاذة التي لا تخفى قيمتها التاريخية والعلمية والأدبية.
- أن هذا التفسير يظهر فيه الحرص على الالتزام بمنهج علمي، وهو – وإن كان يميل – في الآراء الفقهية – إلى مذهب الإمام مالك، إلا أنك لا تلمس في ميله ذلك أي تعصب أو انتصار أعمى، بل إن طريقته في عرض آراء المذاهب الأخرى لتدل على سعة في الصدر وتقدير لأهل العلم، بل إن مكيا قد يميل إلى رأي الجمهور إذا كان بخلاف رأي مالك، ومن ذلك مثلا: مذهب الجمهور في المطلقة ثلاثا أنها لا نفقة لها ولا سكنى، وهو مذهب الإمام أحمد، وقد ذكره مكي في بداية حكاية الخلاف، وأخر قول مالك وغيره أن لها السكنى ولا نفقة لها. وسياق الكلام يدل على ميله إلى رأي الجمهور، حيث إنه – زيادة على تقديمه – استدل له بأنه مروي عن النبي .(32)
أما عن المعركة الفكرية التي شنها على أصحاب المذاهب المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة في مسائل العقيدة، فلا نظنها تقدح في قيمة منهج مكي، وذلك أنه في ردوده كان يستند إلى أصول نقلية وعقلية، غير مكتف باستدلاله على صحة رأيه، بل يزيد على ذلك بنظره في أدلة المخالفين والاستدلال على بطلانها، كما أن الشدة التي صبغت ودوده، لها ما يبررها، فقد اعتمد أصحاب الاعتزال في نصرة مذهبهم صنوفا من الإرهاب والتهديد، خلفت جراحا عميقة في شعور الأمة وقلوب علمائها. كما أن الأمر في العقيدة يختلف عنه في الفقه، ومكي كان ينافح عن أساس الإسلام، ولا شك أن العقيدة أساس بنيته.
وفي نهاية هذا البحث لا بد من الإشارة إلى أنه لم يكن يهدف إلى استقصاء عناصر المنهج التفسيري عند مكي بقدر ما كان يهدف إلى التنبيه على بعض محاسن هذا التفسير، لعله ينال من الباحثين ما هو أهل له من التقدير والاهتمام، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.