العـــِـطـــــرْ
د. محمد فتحى محمد فوزى
العطر: قصة قاتل" للروائى الألماني باتريك زوسكيند صدرت سنة 1985 عن "دار النشر السويسرية ديوجنس فريلاج اج". تنطلق أحداث الرواية في سنة 1738، حيث يولد بطلها ، "جان باتيست غرونوي"، في أحد أسواق السمك الباريسية. ورغم إعتياد أمه على التخلي عن أبنائها من السِفاح بالتخلص منهم، فتخلصت من الرضيع، برميه وسط أكوام الزبالة، إلا أن أمرهاإفتضح عندما إنتبه المارة ورواد السوق؛ لصرخات الطفل المتشبت بالحياة ، وبذا أنُقِذ الطفل واقتيدت أمه للإعدام ... يتلقف أحد المتدينين الرضيع بعد تنازل المرضعة عن كفالته إلا أنه سرعان ما ينفر منه بدوره ؛بسبب الطريقة المقلقة التي يستعمل بها غرونوي حاسة شمه ؛فينتهي المطاف بالرضيع في دار أيتام السيدة غايار التي تأوي الأطفال بمقابل مادي؛ فعاش منبوذا من طرف أقرانه الذين لم يترددوا في محاولة قتله خنقا في أول ليلة له بالدار. رغم النبذ والمعاناة الجسدية، إلا أنه تشبت بالحياة وقهر كل أمراض الطفولة القاتلة. وعلى طول الرواية، يشبه الكاتب شخصيته بالقراد الصبور الذي يعرف كيف يعيش بصمت منتظرا اللحظة الحاسمة التي سيتحرر فيها وينفذ مهمته في الحياة. وبمرحلة التعلم بزنقة "ديمارى" بباريس وفي سن التاسعة ينتقل غرونوي للعمل في مدبغة الدباغ "جريمال"، الرجل الصارم والفظ. وبعكس باقي الدباغين، المتذمرين من روائح المدبغة النتنة، كان غرونوي يعيش بشغف وسط كنز من الروائح والاكتشافات الحسية التي كانت تشحذ حاسة شمه الفذة ، ورغم أنه كان على وشك الهلاك بسبب التهاب في الطحال إلا أن حياته في المدبغة كانت فرصة؛ لاستكشاف روائح باريس التي لم تمض سنوات قليلة حتى كان يحفظها عن ظهر قلب.
في أحد الأمسيات إنجذب
غرونوي، لرائحة فتاة شابة صهباء خضراء العينين، تقطن بزنقة "ديماري" صاحبة
رائحة ساحرة وذات كنه مجهول لدى غرونوي، مما ولّد لديه رغبة عنيفة في تملك عطر
الفتاة، لم يشفه إلا قتلها خنقا؛ فكانت لحظة استنشاق غرونوي لآخر آثار العطر في
جسد الجثة هي الحاسمة في تحديده للهدف المستقبلي لحياته: أن يتعلم كيف يصنع جميع
الروائح التي تشتهيها نفسه؛ ليغدو أحذق عطار في العالم.
يغتنم غرونوي لقائه
بالعطار "بالديني" ؛ليستعرض أمامه مواهبه الشمّية، فلا يتردد بالديني في
انتشاله من مدبغة جريمال ليوظفه كعطار متعلم في معطرته ...كان بالديني عطارا عجوزا
متمكنا من تقنيات العطارة إلا أنه كان يعيش ضمورا قاسيا لموهبته في ابتكار العطور،
وكان ظهور غرونوي في حياته فرصة؛ لاسترجاع مجده الضائع ومواجهة المنافسة الشرسة لصُنّاع
العطور الباريسيين،وهكذا توطد بين الرجلين توافق ضمني: غرونوي يبتكر وصفات جديدة
من العطور ؛لصالح بالديني،مقابل اقتسام الأخير لمعارفه التقنية مع عطّاره الشاب، و هكذا نمّى غرونوي خبرته في تقنية التقطير التي تمكن من استخلاص روائح
الأزهار، إلا أنه سرعان ما اصطدم بعدم قابلية تطبيق نفس التقنية؛ لاستخلاص روائح
أشياء أخرى ...، يسقط غرونوي طريح الفراش متأثرا بصدمة تحطُم طموحه في السيطرة على
جميع روائح العالم، ... ثم يسترجع عافيته ويقرر الرحيل... في صبيحة اليوم الذي كان فيه غرونوي مغادرا انهارت معطرة بالديني فوق رأس
مالكها وزوجته.
ورحل غرونوى وفى رحيله وعى حجم كراهيته لروائح
البشر؛ فاعتكف مُتذكرا عطر الفتاة الصهباء المقتولة... واستنتج أن"من يسيطر على الروائح يسيطر على قلوب الناس"...؛فوصل
مؤخرا إلى عطر عظيم، وبمدينة كراس، عاصمة صناعة العطور في فرنسا، عمل غرونوي...
مختتما جرائمه بقتل لورا
ريشي؛...؛ فيُحكم علـــــــــــيه بالإعدام
و بفضل عطره المعجزة صار بريئا ،وحقق ما كان يصبو إليه ، أي الرُقي إلى مكانة أبرع وأحذق عطار في العالم، ... إلا أنه لم يستطع تجاوز كراهيته للبشر لعدم امتلاك جسده لرائحة خاصة ،والذي يولد لديه شعورا مستمرا باللاوجود وبعبثية كينونته،... وبباريس عاش فى أنتن أمكنة العاصمة، سوق السمك. هنالك، يُفرغ قارورة عطره السحري فوق جسده، مما يحوله إلى ملاك في أعين العشرات من الأشخاص المتواجدين في عين المكان، والذين أغلبهم من العاهرات، والسكارى ، والمتشردين؛فينجذب إليه هؤلاء بعنف ووحشية؛ لدرجة نهشهم لجسده وافتراسه بوحشية، وبعد نصف ساعة ، لم يبقَ لجان باتيست غرونوي وجود على وجه الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق