لقد انتشرت الرسالة المحمدية ﷺ فى الجزيرة العربية سرا فى البداية خشية
الكُفَّار والمشركين، ثم شرعت فـــى الإنتشار جهــرا بأمــر من رب العِــــباد عز وجل :" فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين"
سورة الحجر آية :95،94 ، فضلا عن قوله:" يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ".
المائده 67 ، فاستجاب
رسول الله ﷺ وامتثل لأمر ربه ،وبعد كفاح مرير مع كُفَّار مكــــــة مُدعَّــما بالنصــائح
الإلاهية بــقوله ": ودوا لـــو تدهــن فــيدهنــــون" القلم 9، إلا أنه
اشتدت على أصحاب رسول الله ﷺ حرب الكفار وأذاهم؛ فأمرهم بالهجرة إلى الحبشة ؛لأن بها النجاشى وهو ملك
عادل لا يُظلم عنده أحد ؛فتمت الهجرة ،ثم تتوالى الشهور والسنين ،وبعد بيعتا العقبة
الأولى والثانيه نزل الإذن الإلهيّ بهجرة النبيّ ﷺ بواسطة الوحي؛ فذهب النبيّ ﷺ إلى بيت أبي بكرٍ (ض)، وقال له: "فإنِّي
قدْ أُذِنَ لي في الخُرُوجِ؛ فقالَ أبو بَكْرٍ: الصحابة بأَبِي أنْتَ يا رَسولَ
اللَّهِ؟ قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: نَعَمْ، قالَ أبو بَكْرٍ: فَخُذْ - بأَبِي أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ-
إحْدَى راحِلَتَيَّ هاتَيْنِ، قالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: بالثَّمَنِ ،والمقصود بقول أبي بكر:
"الصحابة"؛ أي أنّه يريد صُحبة رسول الله في هجرته ويسأله ذلك، فأجابه
النبيّ بالقبول، فكان أبو بكرٍ رفيقه في طريق الهجرة.
فاتجه رسول الله ﷺ إلى يثرب، وقد خرج باكيا من مهجره ومقر مولده
ومسقط رأسه؛
فوقف على الْحَزْوَرَةِ قائلا: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ
ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك". ــــ فقد أذن الله -تعالى- كما جاء
آنفا؛ لنبيّه بالهجرة إلى المدينة المنورة بعد ثلاث عشرة سنةٍ من البعثة والدعوة
في مكة المكرمة،وورد عن ابن إسحاق أنّ الهجرة النبوية كانت في السابع والعشرين من
شهر صفر من السنة الرابعة عشرة من بعثة النبي محمدٍ ﷺ، أمّا وصوله إلى المدينة المنورة فكان في الثاني عشر من شهر ربيع الأول،
وذلك على اعتبار أنّ شهر محرّم الشهر الأول من السنة الهجرية. ـــ ؛ فكان معه ﷺ أبو بكر الصديق متخذين طريق الساحل للوصول إلى يثرب التى تغير إسمها إلى
المدينة المنورة بقوله ﷺ:" لا تثريب عليكم اليوم" يوسف 92 ،بعـد
ولوج الرسول وصاحبه إليها
فقد دخل رسول الله ﷺ وصاحبه إلى يثرب من أخطر دروبها وهو "ثنيات الوداع" بمعنـى من
يمر بهذا الطريق أو يلجه فهو مفقود ،ولكن كرامة النبى ﷺ أنه دخل من هذه الثنية ،ولم يحدث لهما شيئا
وصاحبه ؛ فالأهالى خرجوا إليه يستقبلوه بالدفوف فرحين بإنشادهم:
طلع البدر علينـــا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا... ما دعــــــا لله داع
أيها المبعوث فيــنا ... جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة... مرحباً يا خير داع
ومكث رسول الله ﷺ فى المدينة المنورة يُرسى أركان دولة بكل أبعادها السياسية فى العصر
الحديث ؛فأنشأ المسجد الجامع الذى كان نواة للجامعة الإسلامية ومقرا للحكم ،ومسجدا
للعبادة، وآخى بين المهاجرين والمهاجرين ،وبين الأنصار والأنصار، ثم آخى بين
المهاجرين والأنصار ، ثمة أعلن صحيفة الدستور التى هى مجموعة من القواعد العامة
المجردة منظمة للروابط الإجتماعية ،ويلتزم الأفراد باتباعها، والمتضرر عليه اللجوء
لنبى الأمة ﷺ ؛ ليحتكمون إليه وأصحابه فيما شجر بينهم حيث قال فيهم ﷺ أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم إهتديتم.
فتُعـدّ الهجرة نظاما مُتّبعاً للأنبياء والرسل -عليهم السلام- من أجل نشر الدعـوة إلى الله تعالى، وحمايتها من كيد وبغي الباغين والمعادين لها، ولم تكن الهجرة قاصرةً على النبيّ محمدٍ ﷺ ؛ إلا إنّ عدداً من الأنبياء قبله قد هاجروا ممتثلين لأمر الله تعالى؛ لينشروا الدعوة بعيداً عن تضييق المضيقين أو منع المانعين، فهاجر أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السّلام- بعد كيد قومه له وتآمرهم عليه وعلى دعوته، وهاجر لوط -عليه السّلام- كما هاجر عمّه إبراهيم، وهاجر موسى -عليه السّلام- ومن آمن معه من بطش فرعون، وهاجر النّبيّ محمدٍ ﷺ في سبيل نشر الدعوة.
ويُفـــهم من قول الحق سبحانه وتعالى: "وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ
بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ
وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً" النساء 100
فمن مات فى طريقه للهجرة؛ فقد أخذ
ثواب من هاجر, وهذا عام في الهجرة وغيرها من أعمال البر، كالتوبة ،والجهاد في سبيل
الله وكذلك الحج والعمرة.
فقد روى أحمد عن عبد الله بن عتيك قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله
فخر عن دابته فمات, أو لدغته دابة, أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله" ،ناهيك
عن رواية أبو يعـلى عن أبي هريرة رضي الله عنه, قال رسول
الله ﷺ: "من خرج حاجا أو معتمرا أو غازيا ثم مات
في طريقه كتب الله له أجر الغازي والحاج والمعتمر إلى يوم القيامة". فالسلام
عليك يا سيدى يارسول الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت
الأمانة ،ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حق جهاده وعانيت فى هجرتك أشد المعاناة
وصاحبك.
" إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ
الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ
كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
" التوبة 40.