يُعد العلامة الفرنسي رينيه جينو
-أو العارف بالله الشيخ عبد الواحد يحيى كما كان يسميه الإمام عبد الحليم محمود
رحمهما الله - حُجة الأديان عامة وحجة الإسلام خاصة في القرن العشرين. ولعل الاسم
الذي اختاره لنفسه بعد اعتناقه الإسلام يلخص كل حياته في عبارة وجيزة هي:
"عبد الواحد يحيى"؛ فذلك هو الطريق الذي سلكه وقاده في هدوء وسكينة
بعيدًا عن صخب الحياة وصراعاتها ليعبد الواحد الذي لا شريك له، ويحيا في بحثه عن
الحق والحقيقة، وكأنه قد مارس قوله "إنه لكي يدرك الإنسان كنه النور عليه
محاولة الصعود إلى مصدره في تجربة ذاتية منفردة".
لم يكن انتقال رينيه جينو من
المسيحية إلى الإسلام بعد أن درس الماسونية وفلسفات الشرق القديم من قبيل التذبذب
وعدم الاستقرار أو حبا في التغيير، وإنما بحثا عن الحقيقة المفقودة، تلك الحقيقة
التي كانت تربط الإنسان قديما بالكون الواسع في توازن حكيم ثم انقطع خيطها في ضغط
هذا العصر الغارق في الماديات، إنه عبد الواحد يحيى الذي اعتنق الإسلام ووضع خطة
لبناء المسجد الكبير في باريس قبيل الحرب العالمية الأولى وإنشاء جامعة إسلامية في
فرنسا.
وُلِدَ رينيه جينو في 15 من نوفمبر
عام 1886م بمدينة بلوا جنوب غرب باريس، ونشأ في أسرة كاثوليكية محافظة
وما إن بلغ السادسة عشرة من عمره
حتى التحق بكلية "رولان" في باريس، ولم يكتفِ بالدراسة الجامعية وراح
ينهل من العلم في باريس الزاخرة بالمعلمين والمرشدين من الشرق والغرب.
قصة إسلامه
كانت معرفته بالمفكر والرسام
السويدي "جان جوستاف أجلي" - الذي اعتنق الإسلام عام 1897م، وصار اسمه
عبد الهادي، والذي كان يشارك في تحرير مجلة عربية إيطالية باسم "النادي"
- لها الأثر الأكبر في إسلامه، خاصةً أن جينو نشر العديد من المقالات عن المتصوف
العربي الشهير محيي الدين بن عربي.
كان جينو إذ ذاك يصدر مجلة باسم
"المعرفة"، فأخذ عبد الهادي في عام 1910م يُسهم فيها بجد ونشاط، وينشر
فيها أبحاثًا وترجمةً لكثير من النصوص الصوفية إلى اللغة الفرنسية، ومن هنا تمكَّن
عبد الهادي من أن يعقد بين جينو والشيخ عليش - الذي أسلم هو على يديه - صلة قوية
متينة عن طريق تبادل الرسائل والآراء، وكانت النتيجة أن اعتنق جينو الدين الإسلامي
عام 1912م بعد أن درسه دراسة مستفيضة، واتخذ لنفسه اسم عبد الواحد يحيى.
وفي عام 1927م نشر كتابه "القطب"، وأصدر كتابه
"أزمة العالم الحديث" الذي لقي نجاحًا كبيرًا، وقد أُعِيد طبعُه عشرات
المرات في طبعات فاخرة وأخرى شعبية، وهذا الكتاب ليس دعوة إلى الانطواء، بل هو
دعوة إلى الفهم الصحيح والنظر إلى الحضارة الغربية نظرة نقدية بوصفها عملاً إنسانيًّا
يحتمل النقد ولا يعلو عليه.
القاهرة.. أخيرًا
جاء عرض بيت النشر في باريس على
الشيخ عبد الواحد يحيى أن يسافر إلى مصر ليتصل بالثقافة الصوفية، فينقل نصوصًا
منها ويترجم بعضها، فانتقل للقاهرة في عام 1930م، وكان المفروض أن يقضي فيها بضعة
أشهر فقط، ولكن هذا العمل اقتضاه مدة طويلة، ثم عدل بيت النشر عن مشروعه، فاستمر
الشيخ عبد الواحد يحيى في القاهرة يعيش في حي الأزهر متواضعًا مستخفيًا لا يتصل
بالأوروبيين، ولا ينغمس في الحياة العامة، وإنما يشغل كل وقته بدراساته.
حضر عبد الواحد إلى القاهرة وحيدًا،
ووجد الكثير من المشاق في معيشته منفردًا، فتزوج سنة 1934م كريمة الشيخ محمد
إبراهيم، وأنجب منها أولاده الأربعة.
أراد الشيخ عبد الواحد أن ينشر
الثقافة الصوفية في مصر فأسس مجلة "المعرفة" بالتعاون مع عبد العزيز
الإسطنبولي، ولعل اختياره لهذا الاسم يكشف عن جزء من مكنون فكره؛ فالمعرفة هي إحدى
الطرق المؤدية إلى الله سبحانه وتعالى، في حين الطريق الآخر هو المحبة.
وكان برنامج المجلة بذلك يتضمن
مشروعًا بأسره، يهدف إلى التعرف بمعرفة العلم المقدس حقًّا. ومكث الشيخ عبد الواحد
يحيى يؤلف الكتب ويكتب المقالات ويرسل الخطابات، فكان حركة دائمة فكرية وروحانية.
إسهاماته
ترك الشيخ عبد الواحد يحيى العديد
من المؤلفات التي ضمَّت بين صفحاتها دفاعًا عن الإسلام وصورته لدى الغرب، في
مواجهة الصورة التي كان يُروِّجها المستشرقون حول كون الإسلام انتشر بحد السيف،
وأنه لا يثمر الروحانية العميقة.
وقد جاءت إسهاماته في الرد على هذه
الاتهامات من خلال كتبه التي من أهمها:
خطأ الاتجاه الروحاني، والشرق
والغرب، وعلم الباطن لدانتي، والإنسان ومستقبله وفقًا للفيدانتا، وأزمة العالم
المعاصر، والقديس برنارد، ورمزية الصليب، والسلطة الروحية والسلطة الزمنية، وأحوال
الوجود المتعددة، وعروض نقدية، وسيادة الكم وعلامات الزمان، والميتافيزيقا
الشرقية، ولمحات عن التسليك الروحي، والثالوث الأعظم، ومبادئ الحساب التفاضلي،
ولمحات عن الباطنية المسيحية، والبدايات: دراسة في الماسونية الحرة وجماعات الأخوة
(جزآن)، والصور التراثية والدورات الكونية، ولمحات عن الصوفية الإسلامية والطاوية،
وكتابات متناثرة.
وفاته
تُوُفِّي الشيخ عبد الواحد يحيى عام
1951م عن عمر يناهز الرابعة والستين في القاهرة، محاطًا بزوجته وأبنائه الثلاثة،
وجنين كان لا يزال في مرحلة التكوين، وكان آخر كلمة يتفوه بها "الله".